فرحة TV
فرحة TV

قصة قصيرة: رؤيا الكلب العقور.

قصة قصيرة: رؤيا الكلب العقور.
-
الجزائر

بينما الكلب العقور مُرتبعا في مغارة حُكمه، مجتمعا بقادة جيشه ووزراء حكومته، وروائح الجيف الخانقة تنبعث من المقر، ومثل العادة يمارس صلاحيات الظلم والطغيان والقهر، يأمر وينهى ويدبر ويصيح ويشتم، ويُهدد مكشرا عن أسنانه وأنيابه، وفجأة إذا بأصوات حيوانات الغابة على اختلاف أصنافها في الخارج، تُحيط بالمغارة وتصيح بأعلى أصواتها، مُنَدِّدَةً بالكلب وحُكمه، وتُطالبه بالتنحي عن الحكم، وتسليمه للحاكم الشرعي الذي انقلب عليه وأزاحه وسَجَنَهُ، وبتسليم نفسه..

فارتبك الكلب وخاف وتملَّكَهُ الرُّعبُ والفزع، وقام قائما على قوائمه الأربعة، وعلى الفور أصدر أمره لقادة جيشه بقمع هؤلاء والفتك بهم، وإنهاء ماسمَّاهُ بالتمرُّد الذي يُهدِّد سلامة الغابة وأمنها ووحدتها، لكنه فوجئ بقادة الجيش ومعهم الحكومة بكل وزرائها، يطلبون منه ما يطلبه المتظاهرون خارج مغارة الحكم، بضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين والثائرين، وبالتنحي عن الحكم وتسليم نفسه لهم، لتفادي كارثة أكبر قد تعصف بالغابة كلها، فالتضحية بواحد ولو كان الملك لأجل إنقاذ السفينة من الغرق، أهون بكثير من تدحرج الأمور نحو الهاوية، ووقوع فتنة وحرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس..

صُدِمَ الكلب وصُعِق لهول ما يَسمَعُ ويُطلبُ منه، وصاح فيهم: كيف لي أن أُعيد لهم سَلَفِي وقد قضى نحبه، ونحن جميعا اشتركنا في قتله وسفك دمه وافتراسه، ولم يبق منه إلا العظام؟ فهل أُخرِجُها لهم ليرتدعوا وييأسوا أم ماذا؟..
ألستم أنتم من أغراني بِسَلَفِي للانقلاب عليه وإنهاء حُكمه؟ ألستم أنتم من زيَّن لي الأمر وأعانني عليه؟ ألستم أنتم من بايعني ثم تعهدتم جميعا أمامي، وأقسمتم على ذلك بأغلظ الأيمان أنكم في صَفِّي، ولن تخذلوني أبدا ما حييتم ولو على جثثكم؟ ألستم أنتم من أيَّدَني وساعدني وقدَّمَ لي التسهيلات اللازمة، كُلٌّ في إطاره ومجاله وعلى حسب قدراته وطاقته؟ ألستم أنتم من حشد لي الدَّعم الداخلي والخارجي لفعل هذا الأمر؟ ألستم أنتم من تكفَّل باختلاق الأكاذيب ونشر الإشاعات لتشويه سمعة وصورة سَلَفِي، حتى نُؤلِّبَ عليه الرعية وتسهل الإطاحة به؟ ألستم أنتم من سَخَّرَ لي كل إمكانات الغابة ومُقَدَّرَاتِها في سبيل هذا الأمر؟ ألستم أنتم من سعى عند كل كلاب الدنيا، وقرودها وتماسيحها، وأفاعيها وثعابينها، وذئابها وثعالبها، وخنازيرها وبقرها، وحميرها وبغالها، وخفافيشها وبُومِها وغربانها، وجرذانها وحشراتها، وخنافسها وديدانها، من حُكَّام الغابات المجاورة والبعيدة لتحقيق هذا الأمر؟

ولمَّا رآهم مُصِرِّين وقد صَمُّوا عنه آذانهم، وغير مُبالين بتذكيره لهم، فإنه ركع أمامهم وراح يترجَّاهُم ويستجديهم ويذرف الدموع، ويبكي بحرقة ومرارة ولوعة بأن لا يفعلوا، وأن يقفوا في صَفِّه ولا يخذلوه ولا يُسلموه، ولكنهم أبوا عليه إلا تنفيذ مطالب الرعية ومطالبهم، ولا مجال للنحيب والبكاء والاستجداء، وأن عصره قد ولَّى وانتهى، والمرحلة الراهنة تقتضي إزاحته وإنهاء حُكمِهِ، لأن عجلة الزمن قد دارت مُسرعة وانطلقت كالبرق الخاطف، ولا مجال للتراجع إلى الوراء بتاتا..

وفجأة يستيقظ من نومه فزعا مرعوبا، وفرائصه ترتعد، ونَفَسُهُ يذهب ويجيء صعودا ونزولا بسرعة وقُوَّة، وينتحبُ بشدَّة ويئنُّ أنينا مُرًّا على جلبة أصوات، ووقع حوافر راكضة حول مغارة الحُكم كأنه زلزال مُدمِّر، متبوعة بدَوِيِّ نهيق منكر كأنها صواعق من السماء تنهال على الأرض بغير رحمة، لقد كان حمارا يُطاردُ أتَانًا، فتنهَّد الكلب وأخذ نَفَسًا عميقا لاستعادة هدوء نفسه وشتاتها، ثم قال بغضب: الحمد لله أنني استيقظتُ من هذا الكابوس المفزع، حتى ولو كان استيقاظي من حمار يُطاردُ أتانا، المهم أنني استيقظت ولم أشهد تسليمي للإعدام، أما أنت أيها الحمار المتخلف الأحمق مع أتانك الغبية، فلقد أزعجتماني وأرعبتماني وجعلتماني أهُبُّ من نومي فزعا جزعا، وأستيقظ من كابوس مُريع على كابوس آخر يُثير التقزز والاشمئزاز والقرف، كأن الدنيا قد ضاقت عليكما ولم تجدا مكانا أنسب وأليق إلا هنا، لتنهقا وتركضا بالقرب منِّي وعند رأسي، وتُجاهرا بالشَّرِّ والمنكر والانحلال، سأتفرغ لكما وأعاقبكما لاحقا بعد أن أنتهي من أمر المنافقين الخونة، الذين يُحيطون بي إحاطة السِّوار بالمعصم، ويشتملون عليَّ اشتمال المرض المُزمن بالجسد العليل المنهك..

ثم قال لنفسه: لا شك أن هذه رؤيا صادقة من الله، يُحذِّرُني فيها من زيف المنافقين الأوغاد وشَرِّهِم، الذين يُبطنون ما لا يُظهرون، لقد خانوني في الحلم وقد كانوا بايعوني في اليقظة والواقع، فلو كانوا مُخلصين لي حقَّ الإخلاص، لوقفوا في صفي في الحلم أيضا وماخانوني، لقد ترجَّيتُهُم وذرفتُ أمامهم الدموع وانتحبتُ، ولكن لا أحد منهم رَقَّ لحالي وشفَّهُ أمري واستجاب لي، بل كانوا جميعا كلمة واحدة ضدي، ومُصطفِّين مع أعدائي قلبا وقالبا، لقد جعلوني أشعر بالقهر والخيانة والغدر، ما أسوء هذا الشعور وما أقساه! إن ضرب الرقبة أهون منه وأيسر..

الخَوَنَة..، تَخَلَّوْا عني وخانوني في أصعب ظروف النَّوم وأحواله، كان عليهم أن يكونوا مُخلصين لي في الحلم مثلما هم في اليقظة والواقع..، وها أنا ذا سأنتقم منهم يقظة وواقعا، بعدما عجزتُ عن ذلك في الحلم، أحمد الله أن الحمار الغبي وأتانه الوضيعة السافلة، أفاقاني من نومي بطريقتهما الفَجَّة المُنكرة، فاستيقظتُ وإلا لكنتُ قد أُعدِمتُ وانتهيتُ في الحلم، ثم إن هذا الكابوس المُريع، والروائح العفنة التي كنتُ أشُمُّهَا فيه، هي روائح جيف كل من افترستُهُم مع الحكومة وقادة الجيش، لقد طلبتُ منهم مرارا وتكرارا، بضرورة التخلص من بقايا الجيف ولكنهم دائما يُماطلون، يُريدون أن تبقى دهاليز مغارة الحُكم غطاءً وسترا لجرائمهم، فعندما تكون الفريسة موجودة وحاضرة، يحضرون جميعا لأخذ نصيبهم ولا يتخلف منهم أحد، وعندما يكون لزاما تنظيف المكان من الجيفة والبقايا لا تجد منهم أحدا..

إن إزاحتي وتنحيتي من سُدَّة الحُكم أمرٌ فظيعٌ وقاسٍ، وسيِّءٌ كثيرا ولو كان حُلما، وهو كابوسٌ مُريع، بل إنه أشد الكوابيس شرًّا وأمرّها وأعتاها..، الخَوَنَة..، الأوغاد..، الكَفَرَة..، الفَجَرَة..، لأُنزِلَنَّ بهم عقابا لم يروا قبله مثله في حياتهم قط، ولن يروا بعده مثله أبدا في قابلها..

ثم على الفور أصدر مرسوما كَلبِيًّا ساميا عاجلا، بإقالة كل قادة الجيش وتعيين آخرين، وبإقالة الحكومة بكل وزرائها وتعيين أخرى، ثم راح يقول في سره: بعد عزلهم سأدَبِّرُ لكل واحد منهم مكيدة وتُهمة مُحدَّدَة، تجعله يُسجن ويَقضي ما تبقَّى له من حياته داخله غير مأسوف عليه، إلى أن يتعفَّنَ جسده ويموت فيه..

بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية