عاصمة واحدة لا تكفى..
كنت أظن أن لكل دولة عاصمة واحدة فقط، إلى أن قمت بزيارة عدة دول، ووجدت أن لها أكثر من عاصمة واحدة، مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وماليزيا وهولندا. وهناك ١٢ دولة حول العالم، لها أكثر من عاصمة، سواء بنص الدستور أو بحكم الأمر الواقع.
ففي جنوب أفريقيا يوجد ثلاث عواصم بحكم دستور ما بعد انتهاء الفصل العنصري، وهى بريتوريا (العاصمة الإدارية)، وكيب تاون (العاصمة التشريعية)، وبلومفونتين (العاصمة القضائية). وعندما سألت لماذا ٣ عواصم لدولة واحدة، كانت الإجابة "لضمان تقاسم السلطة بالتساوى فى جميع أنحاء البلاد".
وفى ماليزيا، كوالا لمبور، وهى العاصمة الرسمية ومقر الهيئة التشريعية الوطنية. وبوتراجيا (العاصمة الإدارية)، وعند السؤال لماذا عاصمتان؟ كانت الإجابة؛ "لتوزيع المهام ومنع التكدس، حيث أن بوتراجيا هى المقرّ الرسمى لرئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء، ومقرّ قصر ميلاوى الوطنيّ، ومحكمة العدل العليا.
وفى هولندا، امستردام هى العاصمة بحكم الدستور. ولاهاى هى مقر الحكومة ومقر إقامة العائلة المالكة والمحكمة العليا، ومنها تُلقى الملكة خطاب العرش سنويا. وفى نيجيريا، كانت لاجوس هى العاصمة القديمة، ولكن الزحام الشديد والاكتظاظ بالسكان، كانا سببًا فى إنشاء عاصمة جديدة هى أبوجا.
والسؤال الذى يفرض نفسه الآن هو: كيف تختار الدول عاصمتها الرسمية؟
والإجابة أن هناك عدة أسباب، منها أسباب تاريخية وجغرافية وسياسية وثقافية واقتصادية وأمنية، وغيرها، تساهم فى اختيار العاصمة. وغالبًا ما تكون مزيجًا من هذه الأسباب ، مثل:
١-الأهمية التاريخية: مثل روما فى إيطاليا، وأثينا فى اليونان، وبغداد فى العراق، ودمشق فى سوريا.
٢- الموقع الجغرافي: الموقع المركزى المتميز من الناحية الاستراتيجية، مثل واشنطن د س فى امريكا، (المنطقة الفيدرالية ليست جزءا من أى ولاية أمريكية) ومدينة برازيليا فى البرازيل.
٣- القوة الاقتصادية: أكبر المدن وأكثرها تطورًا من الناحية الاقتصادية مثل طوكيو فى اليابان، ولندن فى إنجلترا وباريس فى فرنسا.
٤- الاعتبارات السياسية : كانت المدينة المنورة هى عاصمة دولة الخلافة الإسلامية، وانتقلت إلى دمشق فى عصر الدولة الأموية، واختارت الدولة العباسية بغداد عاصمة لها.
٥- الأهمية الثقافية للمدينة: التراث الثقافى أو الهوية الوطنية والتاريخ المشترك مثل القاهرة فى مصر.
وطوال تاريخ الدولة المصرية الطويل، ومنذ مينا موحد القطرين، تغيّرت عاصمة مصر عدة مرات. فكانت تٍنْيس (الموقع الحالي بالمنزلة دقهلية) أول عاصمة لمصر الموحدة فى التاريخ قبل حوالي ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد. وفى العصر الفرعوني، تغيرت العاصمة عدة مرات بين الوجهين القبلى (طيبة أو الأقصر)، والبحرى مثل (صان الحجر). وفى العصر اليونانى الرومانى كانت الإسكندرية (٣٣٢ سنة ق.م. ـ ٦٤١م) هى العاصمة للدولة المصرية.
وبعد الفتح الإسلامى بين أعوام ٦٤١-٩٦٩، كانت الفسطاط ثم العسكر ثم القطائع هى عاصمة مصر. وفى العام ٩٦٩ م. قرر القائد الفاطمى جوهر الصقلى بناء مدينة لتكون عاصمة للحكم شمالى مدينة الفسطاط، وأطلق عليها اسم "المنصورية". ثم جاء الخليفة المعز لدين الله الفاطمى سنة ٩٧٣م وجعلها عاصمة لدولته، وسماها القاهرة. وأصبحت القاهرة منذ ذلك التاريخ مقرًا للخلافة الفاطمية، وانقطعت تبعيتها للخلافة العباسية.
ومنذ ذلك الوقت ولمدة ١٠٥٠ سنة أصبحت القاهرة هى عاصمة الدولة المصرية.
العاصمة الإدارية الجديدة،
ثم تم أخيرًا، افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة فى ٢٠٢٤. حيث تم افتتاح المرحلة الأولى من العاصمة الإدارية يوم أداء الرئيس عبد الفتاح السيسى اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة (أبريل ٢٠٢٤-٢٠٣٠). بدت المباني الجديدة فى الحى الحكومي، بفخامتها وجمالها وروعة نمطها الهندسي، وكأنها مدينة عصرية حديثة تنافس أجمل عواصم العالم فى أوروبا وأمريكا. موقع العاصمة الإدارية الجديدة متميز، حيث تقع بين مدن القاهرة والإسماعيلية والسويس، وتقع على بعد نحو ٧٠ كيلومتر إلى الشرق من القاهرة، وترتبط بطرق برية رئيسية وخطوط سكك حديدية، وطرق ووسائل نقل جديدة خصيصًا لها.
ولهذا تعتبر العاصمة الإدارية الجديدة إضافة عظيمة، ورئة جديدة للدولة المصرية، بعد أن ضاقت القاهرة الكبرى بسكانها، (قرابة ٢٠ مليون نسمة) وأصبحت لا تستوعب أى ازدحام أو تكدس مستقبلا. وفى نفس الوقت سوف تتيح للقاهرة أن تعود إلى قديم رونقها ونقاء هوائها وسحر نيلها، وأن تظل عاصمة للثقافة والفنون والجمال وعبق التاريخ.
ندعو الله سبحانه وتعالى أن يبارك فى العاصمة الإدارية الجديدة، عاصمة المستقبل للأجيال الجديدة من المصريين، وفى كل المدن الجديدة التي بنتها الإدارة الحالية فى كل محافظات مصر، ووفق الله كل من يبني لمصر بإخلاص وتفانٍ، ولكل من يعمل لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
وكل عام وحضراتكم جميعا بخير.
البوابة نيوز